المركز الوطني لتعزيز الصحة النفسية National Center For Mental Health Promotion حيـــاة أفضــل
القائمة الرئيسية

لماذا يحتفظ البعض بكل شيء؟ نظرة إلى اضطراب الاكتناز (Hoarding Disorder)

لماذا يحتفظ البعض بكل شيء؟ نظرة إلى اضطراب الاكتناز (Hoarding Disorder)

 

في كل بيت تقريبًا، نجد زاوية تحوي أغراضًا قديمة أو أشياء نحتفظ بها “لعلنا نحتاجها يومًا”، لكن حين تتحول هذه العادة إلى نمط حياتي يملأ المساحات ويُعيق الحياة اليومية، فإن الأمر قد يكون أكثر من مجرد فوضى. نحن هنا أمام اضطراب يُعرف بـ اضطراب الاكتناز، وهو حالة نفسية معترف بها علمياً في الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس. (DSM-5).

اضطراب الاكتناز يتمثل في صعوبة مستمرة بالتخلّي عن الممتلكات، بغض النظر عن قيمتها الفعلية، ويصاحبه شعور بالضيق أو القلق عند محاولة التخلص منها. هذا السلوك لا يُفهم فقط على أنه رغبة في التملك، بل هو تعبير عن خلل أعمق في الإدراك والعاطفة والهوية..

الأسباب النفسية والاجتماعية للاكتناز :
غالبًا ما يرتبط الاكتناز بعوامل نفسية كثيرة . من أبرزها الارتباط العاطفي المفرط بالأشياء، حيث يُنظر إلى الأغراض على أنها امتداد للذات أو تحمل قيمة رمزية تتجاوز استخدامها. كثير من المرضى يعبّرون عن خوفهم من الندم لاحقًا إذا ما تخلّوا عن شيء، حتى لو كان عديم الفائدة.

تشير الأبحاث العصبية الحديثة، مثل تلك التي نُشرت في Journal of Psychiatric Research عام 2023، إلى أن الأشخاص المصابين بالاكتناز يظهرون نشاطًا غير معتاد في مناطق محددة من الدماغ، مثل القشرة الحزامية الأمامية (ACC)، عند التفكير في التخلّص من ممتلكاتهم. هذا النشاط يُفسَّر كدليل على الصراع العاطفي الداخلي والقلق المرتبط بالتخلّي.

لا يقتصر اضطراب الاكتناز على مجرد الاحتفاظ بالأغراض، بل يكشف عن صعوبة أعمق في العمليات الإدراكية والعاطفية. فغالبًا ما يواجه المصابون به خللًا في القدرة على اتخاذ القرار، خاصة حين يتعلق الأمر بتقييم أهمية الأشياء أو تصور فائدتها المستقبلية. يصبح الحكم على هذه الأمور مشوّهًا، ما يُفضي إلى تراكم أعداد هائلة من الممتلكات التي لا تحمل قيمة حقيقية، مثل الصحف القديمة، العلب الفارغة، أو الملابس البالية. ومع مرور الوقت، لا ينعكس هذا السلوك على المساحات المعيشية فحسب، بل يتعدّى ذلك ليؤثر في نوعية الحياة والعلاقات اليومية، حيث تتحوّل الأغراض إلى عبء مادي ونفسي يصعب الفكاك منه.

أحيانًا، تتجذر جذور الاكتناز في تجارب صادمة أو فقر ماضٍ. أشخاص فقدوا منازلهم، أو عاشوا في بيئات غير مستقرة، قد يجدون في الاحتفاظ بكل شيء وسيلة دفاعية ضد الشعور بالعجز أو الخسارة المتكررة.

التأثيرات الواقعية للاكتناز :
يتجاوز تأثير اضطراب الاكتناز نطاق الفرد ليطال من حوله. فالمنازل المزدحمة والمكدسة بالأغراض تُعرّض أصحابها لمخاطر جسدية مثل السقوط أو الحرائق، وتُعقّد عمليات التنظيف، ما يُهيّئ لظهور الآفات أو الأمراض. علاوة على ذلك، يؤدي هذا الاضطراب إلى توتر العلاقات الأسرية، وعزلة اجتماعية، وأحيانًا تُتخذ إجراءات قانونية كإخلاء المنزل أو سحب حضانة الأطفال، خصوصًا إن كانت البيئة غير آمنة.

طرق العلاج الحديثة :
رغم التحديات، هناك أمل. أحد أبرز الأساليب العلاجية الفعّالة هو العلاج المعرفي السلوكي المعدّل للاكتناز (CBT-H)، الذي يُركّز على تعليم المريض كيفية اتخاذ قرارات بشأن ممتلكاته، وتحدي المعتقدات غير الواقعية حول الأشياء، وتدريبات منتظمة على التخلص التدريجي.

في السنوات الأخيرة، ظهرت أيضًا مجموعات الدعم الجماعي، مثل برنامج “Buried in Treasures”، والذي أثبت فاعلية ملحوظة وفقًا لدراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2024. يُقدَّم هذا البرنامج على شكل لقاءات أسبوعية تساعد المشاركين على التدرّب سلوكيًا ومواجهة القلق المرتبط بالتخلّص من الأغراض.

كما بدأت بعض المراكز العلاجية باستخدام تقنيات الواقع الافتراضي لمحاكاة بيئات مكتظة وتدريب المرضى على اتخاذ قرارات واقعية في أجواء آمنة، وهو توجّه جديد أظهر نتائج واعدة خاصة لدى كبار السن.

ومن الأساليب المبتكرة أيضًا ما يُعرف بـ “إعادة تشكيل المشهد التخيلي” أو Imagery Rescripting، وهي تقنية علاجية تعمل على إعادة صياغة الذكريات أو المشاعر المرتبطة بالأغراض بطريقة أقل تهديدًا، ما يُسهّل الانفصال العاطفي عنها.

في الحالات التي يرفض فيها الشخص العلاج التقليدي، يتم اللجوء إلى نهج الحد من المخاطر، وهو مقاربة تركز على تقليل الأذى الناتج عن الاكتناز دون الدخول المباشر في الصراع حول التخلص من الأشياء. على سبيل المثال، يتم العمل أولاً على توفير مخرج آمن أو تثبيت أجهزة إنذار، ما يُعد بدايةً للعلاج غير المباشر.

كيف نساعد المصاب بالاكتناز؟
مساعدة المصاب بالاكتناز تتطلب صبرًا وتعاطفًا لا إصدار أحكام. يبدأ الأمر بتقديم الدعم العاطفي، وعدم استخدام لغة نقدية أو وصف الأغراض بأنها “قمامة”. من المهم تشجيع الشخص على خطوات صغيرة، كتنظيم زاوية واحدة من الغرفة، بدلًا من دفعه لتغيير شامل قد يشعره بالتهديد. كما يُنصح بالاستعانة بأخصائيين في الصحة النفسية مدرَّبين على هذا النوع من الاضطرابات .

خلاصة :
اضطراب الاكتناز هو أكثر من مجرد فوضى مادية؛ إنه انعكاس لصراعات داخلية تمتد إلى الهوية، والذاكرة، والأمان النفسي. ورغم صعوبة التعامل مع هذا الاضطراب، فإن التقدّم في الفهم والعلاج يمنحنا أدوات حقيقية للمساعدة والشفاء. في النهاية، ما يبدو لنا كمجرد “أغراض متراكمة” قد يحمل في داخله قصة خوف، أو فقد، أو محاولات للسيطرة على عالم يخرج عن السيطرة.

 

مصدر1 مصدر2 مصدر3 مصدر4 مصدر5 مصدر6